• نشرة منسوج
  • Posts
  • العشرينات: تمرد أم إعادة ترتيب للقيود؟

العشرينات: تمرد أم إعادة ترتيب للقيود؟

كيف أصبحت أزياء العشرينات لحظة انتقالية بين عالمين؟

يصعب أن نمرّ على صور النساء في عشرينيات القرن العشرين دون أن نتوقف: فساتين مستقيمة، شعور قصيرة، أكتاف مكشوفة، إكسسوارات ناعمة، وأحيانًا سيجارة صغيرة تُمسك بإصبعين. شيء ما في هذه الصور يوحي أن هناك تحوّلًا حدث. تحوّل لا يمكن فصله عن الزمان والمكان، ولا اختزاله في عبارة مثل «تغير الذوق». فهذه الموضة تحديدًا، تختلف عن التي سبقتها والتي لحقتها، من حيث الشكل والوظيفة والدلالة

عند تحليل هذه المرحلة بصريًا وسيميائيًا، يتضح أن الأزياء النسائية في العشرينات كانت تعبّر عن توازن جديد، أو بالأحرى، مرحلة تجريبية بين ما كان وما سيكون. فبعد أن قضى القرن التاسع عشر على الجسد الأنثوي داخل مشدّات صارمة وخامات ثقيلة، جاءت هذه الفترة لتقترح على الجسد مساحة حرة، وإن كانت مؤقتة

القصّات المستقيمة التي تخلّت عن إبراز الخصر، لم تكن وليدة فراغ، بل جاءت في أعقاب مرحلة كانت فيها الأنوثة تُرسَم من الخارج بقواعد ثابتة: الصدر المرتفع، الخصر النحيل، الحوض الواسع، كلها كانت تُشكّل باستخدام أدوات خارجية — أبرزها مشدّات الجسم التي بلغت في بعض الحالات حدّ الضرر الصحي. لذلك قد نفهم ظهور الفساتين ذات الخطوط المستقيمة كحل هندسي مضاد، لا بالضرورة بدافع الرفض، بل بدافع إعادة توزيع التوازن على الجسد

كما أن تسريحات الشعر القصيرة، مثل «آ لا غارسون»، تشير إلى ميل واضح لتبسيط الصورة البصرية للمرأة، وتخفيف التفاصيل الزائدة، في زمن بدأ يقدّر السرعة، العملية، والتحرر من التعقيد. وقد رافق ذلك دخول المرأة تدريجيًا إلى فضاءات العمل والتعليم، مما تطلّب نوعًا من «الملاءمة البصرية» مع هذه الأدوار الجديدة

ما يُلاحظ أيضًا هو أن تفاصيل الأزياء لم تفقد الجانب الزخرفي تمامًا، بل أعادت توجيهه: المجوهرات كانت أخف، الأحذية أكثر راحة، الأقمشة أكثر انسيابية، وحتى المكياج أصبح يركّز على العينين والشفاه فقط، كأن كل العناصر أصبحت تميل إلى الاختزال بدل الإشباع، وإلى التركيز بدل التشتيت

لكنّ ما يجعل أزياء العشرينات جديرة بالملاحظة هو أنها لم تكن فقط نتيجة تغيرات داخل الموضة، بل انعكاس لتغيرات اجتماعية أكبر. بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت المجتمعات في مرحلة من إعادة التنظيم، على المستويات الاقتصادية والنفسية والثقافية. تغيرت أدوار الرجال والنساء، وتبدلت علاقة الفرد بالزمن، وبدأ الإيقاع العام للحياة يتسارع. الأزياء، بهذا المعنى، لم تكن إلا إحدى تجليات هذا التسارع

كما أن هذا الأسلوب الجديد لم يدم طويلًا. ففي الثلاثينات، بدأت القصّات تستعيد بعض الانحناءات الأنثوية، وعادت الفساتين لتحدد الخصر، لكن بنعومة أكبر مما كان عليه في القرن التاسع عشر. وهو ما يشير إلى أن مرحلة العشرينات لم تكن بالضرورة ثورة دائمة، بل وقفة انتقالية، أو تجربة بصرية تحاول اختبار الاحتمالات

حين نراقب هذه المرحلة اليوم، نراها لا كاحتجاج ولا كامتثال، بل كمساحة مفتوحة للأسئلة: ماذا يمكن أن تكون عليه صورة المرأة؟ كيف يمكن للأزياء أن تعبّر عن متغيّرات غير منطوقة؟ وكيف يمكن لخط قماش مستقيم أن يحكي أكثر مما قد تحكيه كلمات كثيرة؟

الذي حدث في أزياء العشرينات لم يكن انفصالًا عن الماضي بقدر ما كان إعادة ترتيب للعناصر: الخصر لم يختفِ، بل توقف مؤقتًا عن كونه مركز الثقل البصري. الزينة لم تُرفض، بل أعيد توزيعها على أجزاء مختلفة من الجسد. والأنوثة لم تُلغَ، بل أُعيد تعريفها ضمن شروط جديدة، تتناسب مع إيقاع مختلف، ورؤية أكثر بساطة للحضور الشخصي

في النهاية، كانت أزياء العشرينات لحظة من لحظات التحول، فيها قدر من الجرأة، لكنها كانت أيضًا مقيدة بحدود المرحلة التي نشأت فيها. لم تكن انفلاتًا ولا انضباطًا، بل نموذجًا وسطًا، يشبه عصره: في حالة حركة، يتلمّس معناه وهو يتغير

.هذه المقالة بدعم من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) وصندوق التنمية الثقافي

مصطلح اليوم

التفتة كلمة فارسية الأصل، تدل على نسيج حريري رقيق مُحكم وملمَس هش، ويُقابلها في العربية الفصحى مصطلح «السَّكْب» كما تُطلق في اللهجة السعودية كلمة «سَكْبَة» على الرداء الذي يُحافظ على شكله دون أن يكون منسدلًا، وهو ما يشبه في ثباته ومظهره نسيج التفتة

كيف كانت النشرة اليوم؟

Login or Subscribe to participate in polls.

أخبار تهمك 📩

فريق التحرير: غادة الناصر، سفر عياد، بلسم الغشام، هاجر مبارك، وجدان المالكي

منسوج، لكل ما يخُص قطاع الأزيـاء المحلي

Reply

or to participate.