في أحد أكثر مشاهد مسلسل «إنفنتنغ آنا» تأثيرًا، تدخل البطلة بنكًا لطلب قرض بمظهر أنيق وأنثوي: ثوب ناعم، شعر مصفّف بلون فاتح، ومساحيق تجميل لامعة. ورغم حديثها الواثق، تُقابَل بتجاهل ضمني؛ كأن شيئًا في مظهرها لا ينسجم مع صورة الشخص الذي يُمنَح قرضًا كبيرًا

في اليوم التالي، تعود بالطلب نفسه، لكن بمظهر مختلف تمامًا: بدلة رسمية داكنة، نظارات سميكة، شعر أغمق. لم يتغيّر ملفها المالي، ولا حقيقة كونها مخادعة، لكن وقعها على الموظفين تغيّر، وبدأ التفاوض
إلى جانب دهاء هذه الشخصية الدرامية، يكشف المشهد عن ظاهرة معروفة في علم النفس تُسمى «إدارة الانطباع»؛ وهي الطريقة التي نُشكّل بها صورتنا الأولى أمام الآخرين من خلال المظهر قبل أن ننطق بأي كلمة
تشير بعض الدراسات في علم النفس الاجتماعي إلى أن المرشحين الذين يرتدون ملابس تُقرأ على أنها «مهنية» و«قيادية» يحصلون على تقييم أعلى من حيث الكفاءة والجدية، حتى لو لم تختلف سيرهم الذاتية عن غيرهم. المظهر هنا لا يضيف خبرة جديدة، لكنه يغيّر طريقة قراءة الخبرة نفسها
لكن هل يعمل هذا المنطق بالطريقة نفسها في كل شركة، وكل مدينة، وكل ثقافة؟
في السعودية والخليج، شهدنا خلال السنوات الأخيرة تغيّرًا واضحًا في رمزية المظهر الرسمي خلال اللقاءات العامة أو المقابلات التوثيقية. بدأ بعض المسؤولين يظهرون دون البشت، أو حتى دون الشماغ، خاصة في الزيارات الميدانية أو اللقاءات السريعة. هذا التخفّف لم يعد يُفهم كابتعاد عن البروتوكول، بل يُقرأ غالبًا كرسالة: التركيز على العمل المباشر، وليس على التمثيل الرمزي الكامل للمنصب والسلطة
في المقابل، قد يُقابل الإفراط في التأنّق في مواقع العمل الميداني بالانتقاد؛ كأن من يظهر بكامل زينته في موقع إنجاز لم يأتِ للعمل بقدر ما جاء للاستعراض. هنا تبدأ ملامح «ثقافة الشركة» أو الجهة في الظهور من خلال اللباس: ما يُعدّ احترامًا في قاعة رسمية قد يبدو غير مناسب في ورشة عمل، والعكس صحيح
في الولايات المتحدة مثلًا، تظهر الفكرة نفسها بصيغة مختلفة. في نيويورك، خصوصًا في المؤسسات المالية والمكاتب القانونية الكبرى، تبقى البدلة الرسمية الموحّدة تقريبًا هي المعيار المهني. شكل الموظف جزء من صورة المؤسسة عن نفسها: صارمة، دقيقة، عالية المسؤولية
في وادي السيليكون، الصورة معكوسة تقريبًا. الملابس البسيطة مثل الجينز والقميص والحذاء الرياضي صارت رمزًا للتركيز على الابتكار لا على الشكل. لكن هذه «البساطة» ليست عشوائية؛ هي أيضًا كود متفق عليه يرسل رسالة محددة: «أنا عملي، مشغول، وأهتم بما أقدّمه أكثر من مظهري.» التأنّق الزائد في هذه البيئة قد يُقرأ على أنه تكلّف أو عدم فهم لروح المكان، كما أن التبسيط المبالغ فيه في بيئة رسمية قد يُقرأ على أنه قلّة احترام أو عدم نضج مهني
الشركة، من خلال ما تسمح به وما تشجّعه وما تلمّح إليه في اجتماعاتها وصورها الرسمية وصفحاتها على المنصّات الرقمية، ترسم حدود اللباس المقبول وتحدّد ضمنًا ما تعتبره مناسبًا أو بعيدًا عن ثقافتها. ثقافة اللباس داخل أي شركة لا تتكوّن من اللائحة المكتوبة فقط، بل من الصورة اليومية التي يراها الموظف: كيف يلبس القادة والمديرون؟ كيف يكون التعليق عندما يظهر شخص بمظهر مختلف قليلًا؟ وكيف تبدو الشركة في حملاتها وصورها وتقاريرها؟ من تكرار هذه التفاصيل تتكوّن لدى الموظفين فكرة واضحة عما «يليق» بهذا المكان؛ هل هو مكان بدلات رسمية، أم عباءات محافظة بتفاصيل بسيطة، أم بيئة تسمح بالجينز وحذاء رياضي طالما أن العمل منجَز؟
بهذا المعنى، الشركات لا تكتفي بقراءة مظهر موظفيها، بل تعلّمهم أيضًا – بوعي أو بدون – كيف يلبسون كي يبدوا جزءًا من «العائلة المؤسسية»
تشير بعض الأبحاث في مجالات الإدارة والتوظيف إلى أن مسؤول التوظيف يشكّل الجزء الأكبر من انطباعه الأوّل خلال دقائق معدودة من بداية اللقاء، بناءً على المظهر العام، وطريقة الدخول، والنبرة، وتعبيرات الوجه، وليس على محتوى السيرة الذاتية وحده. هذا لا يعني أن الخبرة لا قيمة لها، لكنه يعني أن طريقة «تغليف» هذه الخبرة تلعب دورًا حقيقيًا في لحظة الاختيار
من هنا تأتي الخلاصة العملية: مقابلة العمل ليست عرض أزياء، لكنها أيضًا ليست مكانًا محايدًا تجاه المظهر. اللباس فيها لا يُقاس بجماليته وحدها، بل بقدرته على أن يقول ضمنًا: «أنا أفهم ثقافة هذا المكان، وأرى نفسي جزءًا منه.»
بدل التعامل مع الموضوع كقائمة ممنوعات ومسموحات، يمكن قبل أي مقابلة أو يوم عمل مهم أن نسأل ببساطة: كيف يظهر الموظفون والمديرون في الصور الرسمية وعلى حسابات الشركة؟ هل لغة المكان أقرب إلى الرسمية أم العملية أم الإبداع؟ هل يبدو أن الجهة تحتفي بتنوّع الأساليب، أم تميل إلى شكل واحد متشابه تقريبًا؟
الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة تساعد أي شخص على اختيار مظهر يعبّر عنه، وفي الوقت نفسه لا يصطدم بثقافة الشركة بشكل حاد. الفكرة ليست أن نتخلّى عن ذواتنا أو نتقمّص أزياء لا تشبهنا، بل أن نفهم أن لكل مكان لغته في اللباس، وأن تجاهل هذه اللغة تمامًا قد يفتح بابًا لسوء الفهم من اللحظة الأولى. لا توجد وصفة واحدة تصلح للجميع، لكن يمكن أن يكون سؤال واحد هو المعيار قبل أي موقف مهني مهم:
هل يساعدني مظهري اليوم على أن أبدو مسؤولًا، حاضرًا، ومنسجمًا مع نوع العمل وهذه الجهة؟
إذا كانت الإجابة «نعم» بشكلٍ مريح، فأنت قطعت جزءًا مهمًا من الطريق، قبل أن تُفتح ملفات السيرة الذاتية وقبل أن يبدأ الحديث الرسمي
.هذه المقالة بدعم من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) وصندوق التنمية الثقافي


فريق التحرير: غادة الناصر، هاجر مبارك، منار الأحمدي، دانة النعيم، وجدان المالكي
منسوج، نضعك في قلب مشهد الأزياء السعودي

