🎨مصمم جائع، وفنان مقيَّد

كيف وُلد الفن من النقص؟

غالبًا ما نلاحظ في الأزياء التقليدية السعودية، تكرارًا لزخارف هندسية دقيقة ونقوش نباتية متشابكة. تظهر على الأثواب، في التطريز، وعلى أطراف الأكمام، أو داخل تكوينات القماش نفسه. وفي كل مرة تعود هذه الأنماط إلى الواجهة، يتجدد الفضول: لماذا استُخدمت هذه الزخارف بالتحديد دون غيرها؟ وهل كانت مجرّد خيارات جمالية تُحاكي الطبيعة، أم أن لها جذورًا أعمق في التاريخ البصري والثقافي للمنطقة؟

المسدح الهاشمي

بالنظر إلى تاريخ الفن الإسلامي، يتّضح أن هذه العناصر لم تكن مجرد زينة، بل لغة بصرية ذات دلالات فكرية وروحية. فمع تحفّظ الإسلام على تصوير الأرواح، ابتكر الفنانون المسلمون أساليب أخرى للتعبير، واعتمدوا على الرياضيات والهندسة لبناء نظام بصري متكامل

في قلب هذا النظام، تقوم فكرة التوحيد. فكما أن الكون كلّه يعود إلى خالق واحد، فإن معظم الزخارف الإسلامية تعود إلى مركز هندسي ثابت، تنطلق منه الخطوط، وتعود إليه، في حركة لا نهائية. ولهذا لم تكن الأنماط الهندسية مجرد «أشكال متكررة»، بل تجسيد لفكرة كونية: أن كل شيء منظَّم، محسوب، وله أصل

أشهر هذه التكوينات ما يُعرف بـ«الطبق النجمي»، وهو نمط زخرفي يعتمد على تقسيم الدائرة إلى وحدات هندسية تنسج معًا نجومًا متعددة الأضلاع. هذه الأنماط تُنفَّذ بدقة رياضية، بزوايا وقياسات مدروسة، وتمنح العين إحساسًا بالامتداد والتناغم والانضباط. وهذا ليس مصادفة، بل امتداد لفهم فلسفي يرى الجمال في التكرار، وفي انتظام التفاصيل

الطبق النجمي

إلى جانب الهندسة، كان للطبيعة نصيب في الإلهام، لكن بأسلوب مختلف. الزخارف النباتية الإسلامية لا تُحاكي الزهرة كما هي، بل تعيد بناءها بشكل مثالي، فتتحوّل الأغصان والبتلات إلى نماذج متوازنة، متناظرة، تُعيد سرد الحياة كحركة منظمة لا فوضى فيها

يرى عدد من الباحثين في تاريخ الفن أن الفنان المسلم عبّر عن رؤيته الروحية من خلال ثلاث أدوات أساسية: الهندسة، الإيقاع، والنور. وفي هذا السياق أيضًا، لعبت الألوان دورًا محوريًا، إذ ارتبطت وفرتها ولمعانها برغبة فنية في استحضار أجواء الجنة، كما ورد وصفها في القرآن، بوصفها عالمًا مشبعًا بالجمال والضوء والحياة

وبطبيعة الحال، تسلّل هذا الفن، في بعض مظاهره، إلى الأزياء التقليدية. فالنقوش التي تُطرّز بخيوط الذهب أو الفضة، هي امتداد لهذه اللغة البصرية، التي وجدت في القماش وسيلة أخرى لتأكيد علاقتها بالنظام والجمال والرمز

:الفنان الأمريكي تشارلز إييمز كتب ذات مرة

 “Design depends largely on constraints. A great deal of creativity is born from the discipline of limits” 

تشارلز إييمز

 أي أن القيود هي ما يدفع الفنان أحيانًا للابتكار الحقيقي. والفن الإسلامي خير مثال على ذلك. فقد نشأ من حدود صارمة، لكنه لم يتوقف عندها، بل تجاوزها، وابتكر منها فنًّا قائمًا على الدقة، والانضباط، والتأمل

غالبًا ما يُنظر إلى القيود، خاصة في المجالات الإبداعية، كعقبات تُحدّ من حرية التعبير، أو كقوالب صارمة تكبّل الخيال. لكن التجربة الإسلامية في الفن تقترح منظورًا آخر تمامًا: أن القيود ليست نهاية المسار، بل بدايته. ففي اللحظة التي يُمنع فيها الفنان من الاعتماد على أدوات جاهزة – كتصوير الوجوه أو تجسيد الأجسام – يضطر إلى البحث عن أدوات جديدة. وهنا، يتحوّل القيد إلى سؤال مفتوح: كيف أقول شيئًا دون أن أقول كل شيء؟ كيف أُعبّر دون أن أُجسّد؟

القط العسيري في النوافذ

هذا التحدي هو ما أنتج لغة الفن الإسلامي. لغة لا تتكئ على المحاكاة، بل على الاقتراح. لا تُظهر المعنى، بل تلمّح إليه. وهذا ما منح الفن الإسلامي قوة رمزية مدهشة، لأنه لم يكتف بنقل الواقع، بل سعى إلى تأويله وتفكيكه وإعادة بنائه بطريقة تتماشى مع التصورات العقائدية والثقافية للمجتمع الإسلامي

يمكن القول إن هذه التجربة تُعلّمنا أن غياب بعض الوسائل لا يعني بالضرورة غياب الإمكانية. بل العكس، أحيانًا عندما تُغلق بعض الأبواب، يُفتح باب أوسع على الخيال، ويبدأ الفنان برؤية الأشياء بشكل مختلف، أدق، وأعمق. ولذلك، لم يكن الفن الإسلامي فنًا «ناقصًا» كما صوّره البعض في الغرب سابقًا، بل كان فنًا متماسكًا له منطقه الداخلي، وأدواته الخاصة، ورؤيته المتميزة للعالم

ويبدو هذا المعنى جليًا أيضًا في تجربة مصمم الأزياء بيتر مولييه، المدير الإبداعي لدار عزالدين علايا ، حين قدم أجمل مجموعاته في عام 2024 وهي مجموعة كاملة مصنوعة من خيط واحد فقط: صوف الميرينو. ليس نقصًا في الموارد، بل قرارًا إبداعيًا واعيًا، يُعرف في أوساط الموضة باسم «متلازمة المصمم الجائع» وهو مفهوم يعبّر عن تقييد المصمم لنفسه بمادة واحدة أو قاعدة واحدة، بهدف اختبار أقصى طاقاته الإبداعية

وهذا يشبه تمامًا ما فعله الفن الإسلامي في لحظة التقييد: حين تتحوّل الحدود إلى محرّض على الخلق، والمحدودية إلى أسلوب له لغته ومنطقه وجماله

هذه المقالة بدعم من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)وصندوق التنمية الثقافي

مصطلح اليوم

والبشكير يطلق أيضاً على قطعة كساء أو ثوب ينشف به ويرادفها بالعربية «القطيلة». كما اهتموا العرب قبل الاسلام بالأزر وتفاخروا بلبسها. وكان إخاء المآزر دلالة على الترف وعلو المكانة الاجتماعية، لأن شد المآزر ورفعها وتقصيرها هي صفة لأهل العمل في الفلاحة والأمور المعيشية الأخرى أو التأهب للحرب والجد

كيف كانت النشرة اليوم؟

Login or Subscribe to participate in polls.

أخبار تهمك 📩

-

-

-

فريق التحرير: غادة الناصر، سفر عياد، بلسم الغشام، هاجر مبارك، وجدان المالكي

منسوج، لكل ما يخُص قطاع الأزيـاء المحلي

Reply

or to participate.