منذ سنوات، والعواصم الخليجية تنتقل من دور «المستهلك الفاخر» إلى دور «المالك والمؤثر» في صناعة الموضة العالمية. لم يعد حضورها يقتصر على اقتناء الأزياء، بل بدأ يمتد إلى امتلاك المؤسسات التي تُنتجها وتُدير سردياتها
الاستثمارات الخليجية في قطاع الأزياء تحوّلت إلى ظاهرة اقتصادية لافتة. في مطلع هذا العام، استحوذ صندوق «ملتيبلاي قروب» من أبوظبي على 68% من مجموعة «تندام» الإسبانية، بصفقة تقارب المليار يورو. في 2022، استحوذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على 40% من سيلفردجز البريطانية. قبل ذلك، امتلكت قطر هارودز، و«ميهولا» القطرية أصبحت مالكةً لعلامات مثل فانتينو وبالمان. حتى الشركات التي لم تُشترَ بالكامل، أبرمت اتفاقيات شراكة مع مؤسسات خليجية، مثل انديتيكس التي سلّمت عملياتها في روسيا لشركة إماراتية
هذه التحركات لا تأتي عشوائيًا، بل تنسجم مع خطة أوسع لتقليل الاعتماد على النفط، وتنويع الاقتصاد، والاستثمار في قطاعات «ناعمة» مثل الرياضة، الترفيه، والأزياء. لكن هنا يتبلور سؤال طرحه أحد الأشخاص في نقاش دار بيننا: هل يكتفي الخليج بشراء القيمة، أم يصنعها؟ هل ما يزال في موقع المُـمَـوِّل أم المُنتِج الثقافي؟
السؤال في محله، لأن الواقع اليوم أجمل مما يبدو. الخليج اليوم لا يكتفي بالشراء، بل يتحرك على مسارين متوازيين: من جهة، يملك علامات عالمية راسخة تُعزّز حضوره العالمي؛ ومن جهة أخرى، يؤسس من الصفر لبنية محلية في صناعة الأزياء، تشمل تمكين المصممين، وبناء تعليم مهني متخصص، وزرع بذور علامات خليجية قد تنافس عالميًا لاحقًا.أي أننا أمام معادلة متوازنة واستراتيجية ذكية، هدفها صنع تكامل محسوب
جانب من أسبوع الرياض للأزياء
أما عن موضوع التمثيل الثقافي داخل هذه العلامات، فلا يمكن إنكار أن الحضور الخليجي ما يزال محدودًا في سردياتها. التمثيل لا يوازي حجم الشراء ولا ثقل السوق. وكأن المستهلك الخليجي، رغم قوته، لم يُطالب بعد بأن يرى نفسه ممثّلًا في هذه العلامات، أو لم يُدرك بعد مدى تأثيره في تشكيل ذوق السوق
في أحد التقارير السنوية التي أطلقتها إحدى المنصات الإعلامية العام الماضي، طرح بعض المتحدثين فكرة أن سوق الخليج «صعب الفهم» بالنسبة للعلامات الأوروبية، وكأن الثقافة لا تزال تُعامل كحاجز. لكن الواقع تغيّر خاصة مع النشاط السياحي والتجاري المتصاعد خصوصًا في السعودية، ونمو السوق في قطر والإمارات، صار من المنطقي أن تُبذل جهود أوضح في فهم هذا الجمهور، ولا عذر الآن
لكن حين ننتقل من الجوانب التجارية إلى عمق الثقافة وتمثيلها، نُدرك أن الإشكالية لا تقف عند ضعف التمثيل في سرديات الآخرين، بل تمتد إلى علاقتنا نحن بالهوية. فمنذ أواخر السبعينات وبداية الطفرة النفطية، نشأ انقطاع طويل عن الوعي الثقافي الذاتي، صحيح أن الخليج حافظ على شعارات الهوية في الخطاب العام، لكن في العمق، نشأت أجيال كاملة على تعليم وإعلام ومناهج لم تعكسها، ولم تكلّف نفسها حتى بمحاولة فهمها
تحدثتُ ذات مرة مع أكاديمية سعودية درست تصميم الأزياء في أوائل الألفية، وكانت تصف كيف أن الطالبات في تلك المرحلة يُطلب منهن تقديم مشاريع بحثية عن حضارات أجنبية، كالمصرية أو الإغريقية، دون أي توجيه أو تشجيع لاستكشاف تراثهن المحلي. لم يكن يُنظر إلى الثقافة المحلية كمصدر صالح للدراسة أو الإبداع. اليوم، تقول الأكاديمية نفسها، صرنا نحن – كأعضاء هيئة تدريس – نندهش مما يكشفه الطلاب من غنى بصري وثقافي كنا نجهله أو نتجاهله. هؤلاء الجيل الجديد أقرب إلى ثقافتهم مما كنّا عليه نحن
ولهذا، فإن المناهج التي كُتبت بلغة لا تُشبهنا، أنتجت حالة من الانفصال الثقافي، امتدت آثارها إلى نظرتنا لأنفسنا، ولمدى شرعية استلهامنا لهويتنا في الإبداع. كما قال د.عبدالمجيد المدرع، الباحث في التاريخ واللغات: «اهتمام الجهات الرسمية اليوم أعاد كتابة إرثنا وتاريخنا بعد أن كان مختطفًا، ويُكتب بطريقتهم.». حيث كبرنا على صورة نمطية تُلخّص شبه الجزيرة في صحراء وخيام وجِمال، ورغم أن هذه الصورة ليست خاطئة، فهي تحمل من الجمال والبساطة والأصالة ما لا يزال يعيش فينا حتى ونحن نبني ناطحات السحاب، إلا أنها تروي جزءًا من الحكاية فقط
هذه الأرض التي أنجبت حضارات المقر، وكندة، ومملكة الأنباط منذ ما قبل الميلاد، واليوم تبني مستقبل نيوم، لا يمكن اختصارها في مشهد واحد. تنوّعها البصري والثقافي لا يقلّ عن أي حضارة سبقتها أو أتت بعدها، لكنه غاب طويلًا عن وعينا، لأننا لم نُشجّع على اكتشافه
لهذا، لو سألت مصممًا محليًا اليوم عن سيرة «كوكو شانيل»، سيحكيها لك بتفاصيلها الدقيقة. ولو سألته عن تاريخ قطعة «البار جاكيت» من «ديور»، سيفصّل لك في تصميمها وبنائها. لكن لو طرحت عليه اسم «طاهرة السباعي» — أول من أرّخ للأزياء السعودية في الثمانينات — فغالبًا لن يكون على دراية كافية بها. ولو ذكرت له «المبقر الطائفي»، تلك القطعة المعقدة في تكوينها والغنية بتفاصيلها، فربما لا تتجاوز معرفته بها كونها قطعة تراثية، رغم أنها تضاهي بتعقيدها وحِرفة صناعتها كثيرًا من قطع الكوتور الفرنسية
طاهرة السباعي من غلاف فيلم (أنشودة إلى أمي)
بل، وبسبب هذا الانفصال، كثيرًا ما تُطرح مبررات عند الحديث مع بعض المصممين المحليين عن الهوية. يُقال أحيانًا: ليس من الضروري توظيف الهوية في كل تصميم. لكن هذا الرأي غالبًا ما يعكس فهمًا محدودًا، يختزل الهوية في زخارف نجدية أو نقوش القط العسيري تُضاف على أطراف الكم. بينما الهوية، في جوهرها، أن يغوص المصمم في حِرَف الأولين، ويدرس الفنون التي نشأت في بيئته، ويفهم منطقها الجمالي والوظيفي، ثم يعيد ابتكارها برؤية معاصرة
صناعة الأزياء اليوم أصبح التميز فيها عملة نادرة، قد تكون الهوية آخر ما يُمكن أن نصنع به الجديد فعلاً. هذه ليست نبرة لوم، بل توصيف لحالة ثقافية تشكّلت عبر عقود لفراغ تُرك طويلاً، وملأه الأخرون بطريقتهم، وصِرنا نُجيد سرد حكاياتهم أكثر من حكاياتنا
لكن اليوم، الصورة تغيّرت. المشهد أكثر تفاؤلًا من أي وقت مضى. السعودية، بتنوعها الجغرافي والثقافي، من حضارات دادان إلى مستقبل نيوم المتطوّر، تُشكّل مادة خام لا تُقدّر بثمن. إذا كنت مصممًا محليًا، فالمشهد ينتظرك
لا تعد من تعليمك في الخارج بتقنيات مستوردة فقط؛ عد ومعك رؤية تنتمي إليك، تنبع من بيئتك، وتُخاطب العالم بلغتك الخاصة
الأعين تتجه إلينا، لكن المستقبل لن يُملى علينا، نحن من سيكتبه، بشرط أن نعرف من نكون، وماذا نريد أن نقول
مصطلح اليوم
الكَوْث أو الخُف يشير إلى نوع من النعال المكشوفة المخصصة للإستخدام داخل المنزل. حيث يطلق لفظ الخُف على كل ما كان خفيفاً من الأحذية
و «الكَوْث» هي البديل العربي الفصيح للفظ الشائع وهو: «الشبشب»، وهي كلمة معربة من التركية
كيف كانت النشرة اليوم؟ |
📩أخبـار تهمـك
برادا تواجه انتقادات بعد عرضها صندلًا يُشبه تصميم "كولهابوري" الهندي التقليدي خلال عرض برادا لربيع/صيف 2025 للرجال دون الإشارة للمصدر، لتُقر لاحقًا بتأثرها بالتراث الهندي بعد مطالبات رسمية وشعبية بالاعتراف بحقوق الحرفيين
المعرض "ويستوود | كاواكوبو" يفتتح في 7 ديسمبر 2025 في ملبورن، ويعرض أكثر من 140 قطعة تجمع بين أعمال المصممتين الأيقونيتين فيفيان ويستوود وريي كاواكوبو، مسلطًا الضوء على رؤاهما الثورية في الموضة والبناء الفني في التصميم
فريق التحرير: غادة الناصر، سفر عياد، بلسم الغشام، هاجر مبارك، وجدان المالكي
منسوج، لكل ما يخُص قطاع الأزيـاء المحلي
Reply