قد نعتقد أن اختيار اللون مسألة ذوق بسيط، لكن علم النفس يبيّن أن اللون قرار غير محايد. هو أول ما يلفت النظر في أي لباس، ومنه يبدأ تكوّن الانطباع قبل أن نلاحظ القَصّة أو الخامة أو العلامة التجارية. الألوان تثير فينا مشاعر وأحكامًا مرتبطة بتجارب سابقة وصور متكررة في بيئتنا، حتى لو لم ننتبه لذلك

تشير دراسات علم نفس الألوان إلى أن لكل لون نمطًا متكرّرًا من الانطباعات: الأزرق يرتبط بالثقة، الأخضر بالسكينة، الأحمر بالتنبيه أو الجاذبية، والأسود بالقوة أو الوقار. هذا التأثير لا يقتصر على المزاج، بل يمتد إلى طريقة قراءة الآخرين لنا، خصوصًا في المواقف التي نحتاج فيها إلى حضور واضح أو انطباع أول قوي، مثل مقابلات العمل، جلسات التفاوض، أو الخطابات العامة، حيث تُستخدم الألوان عن قصد لدعم الرسالة وشكل المتحدّث

لكن تأثير اللون لا يقف عند خزانة الملابس. في التسويق والإعلام تُستخدم الألوان كأداة سريعة لتوجيه سلوكنا. مطاعم الوجبات السريعة مثلًا تختار الأحمر والأصفر لأنها تخلق إحساسًا بالعجلة والحركة، وتدفع الزبون لاتخاذ قرار سريع ثم المغادرة. في المقابل، تعتمد المطاعم الفاخرة ألوانًا داكنة وإضاءة أهدأ تشجّع على البقاء أطول، وتتعامل مع الأكل كطقس اجتماعي له وقته ومساحته

المنطق نفسه يحكم الشاشات. المنصات الرقمية تصمّم أزرار الشراء والدفع بألوان مثل الأخضر لأنه يرتبط في أذهاننا بالأمان والاستمرارية والموثوقية. شعارات علامات مثل ستاربكس وهول فودز تستثمر الأخضر لربط منتجاتها بصورة «صحية» و«طبيعية». الإعلام والإعلان هنا لا يبتكر هذه المعاني من الصفر، بل يكرّرها ويضخّمها إلى أن تتحوّل إلى رد فعل تلقائي أمام اللون

في صناعة الأزياء، تحوَّل اللون إلى أداة لإدارة الانطباع. بيوت الأزياء تعرف أن اللون لا يُختار فقط لمواكبة الموسم، بل ليحمل رسالة محددة، إمّا بالتوافق مع مشاعر الجمهور أو بكسرها عمدًا. في عرض واحد قد يُستخدم الأبيض للدلالة على النقاء، والذهبي لإحساس بالفخامة والثراء، والرمادي للحياد، والزهري للتأمل أو الرقة. كل اختيار لوني قرار محسوب يستدعي ما تراكم في أذهاننا عن الألوان ومعانيها

في مواسم معيّنة، يُعاد تشكيل معنى الألوان نفسها. الوردي الذي ارتبط طويلًا بصورة أنثوية نمطية عاد في السنوات الأخيرة كلون يرتبط بالقوّة الناعمة في موجات مثل «قوة الزهري». أمّا الأسود فانتقل من كونه لونًا مرتبطًا بالفقد إلى لون يُستخدم كثيرًا للدلالة على الثقة والسلطة. شركات التنبؤ بالهبّات مثل «دبليو جي إس إن» تتابع هذه التحوّلات وتبني عليها تقارير تُحضَّر قبل نحو ١٨ شهرًا من كل موسم، في سوق تُقدَّر قيمته بمليارات الدولارات. هذا البُعد الصناعي في صناعة الهبّات تناولناه بتفصيل أوسع في مقال «الهبّات: كيف يُصمَّم ما نرغب به؟» على منسوج

مع ذلك، لا يتشكّل معنى اللون فقط بما تختاره صناعة الأزياء، بل أيضًا من البيئة التي نشأنا فيها. في الخليج العربي مثلًا، يُعَدّ الأبيض لونًا أساسيًّا في ثياب الرجال وله حضور راسخ قديمًا وحديثًا. وفي مكة وجدة اعتادت نساء كثيرات ارتداء الأبيض في بعض الأنماط الشعبية أو في المناسبات، ويرتبط عندهن بالإيمان والخفّة والقرب من الحرم. في المقابل، ينظر كثيرون في نجد إلى الأبيض في ملابس النساء بوصفه قريبًا من زيّ الرجال، لذلك يبقى أقل انتشارًا. هذا الاختلاف يوضّح أن علاقتنا بالألوان تُبنى على «ذاكرة ثقافية» مشتركة، ما رأيناه في البيت والشارع والعبادات والإعلام، وما ارتبط في أذهاننا بكل لون من صور ومعانٍ

بهذا المعنى، يعمل اللون كـ«إشارة اجتماعية» تتجاوز ذوق الفرد، وتشير ضمنًا إلى الانتماء والرسميّة وحدود المقبول. في بيئات العمل الرسمية مثلًا، يتجنّب كثيرون الألوان الصارخة، ليس فقط التزامًا بالتعليمات، بل احترامًا لتوقّعات غير مكتوبة عن «كيف ينبغي أن نبدو» في هذا المكان. هنا يصبح اللون قريبًا من اللغة، طريقة للتعبير عن أنفسنا وعن موقعنا في المجتمع، حتى ونحن صامتون

.هذه المقالة بدعم من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) وصندوق التنمية الثقافي

فريق التحرير: غادة الناصر، هاجر مبارك، منار الأحمدي، دانة النعيم، وجدان المالكي

منسوج، نضعك في قلب مشهد الأزياء السعودي


كن أول من يعرف

تحديثات أسبوعية تبقيك في صدارة أخبار وثقافة الأزياء السعودية


Comments

or to participate


آخر الأخبار

No posts found